يصرخ أخوه الصغير من شدة الجوع، لا دواء ولا غذاء في المخيم منذ أشهر، قام بربط بطنه وبطن أخوته بحبال في محاولة منه لتخفيف ألم الجوع، لم يعد يستطيع التحمل. يقرر أن يغامر بالخروج من المخيم ليشتري الخبز لعائلته بعد فقدانه كلياً في المخيم منذ أكثر من 170 يوماً، يخرج من البيت محاولاً التسلّل خارج المخيم فيتلقى رصاصة تُرديه قتيلاً، هذه القصة تكررت كثيراً كقصة عمر الحارس وطه حسين في بداية الحصار اللذين يقرران في لحظة يأس المغامرة بالخروج من المخيم لجلب كميات من الخبز لأهله بعد نفاد كل كميات القمح والشعير وحتى العدس التي كانت موجودة في المخيم.
يتجه الزميلان طه حسين وعمر الحارس إلى شمال المخيم المغلق بسواتر ترابية والمحاصر من قبل النظام والموالين له، وانتظرا حتى غروب الشمس لكي يكون لهم الليل ستراً من رصاص القناصة المنتشرين خارج وداخل المخيم من قبل النظام ومسلحي المعارضة. أثناء عبورهم الطريق ليصلوا إلى الأحياء القريبة وسط دمشق، بدأوا بالسير بحذر، حتى وصلوا منتصف الطريق، نُصب لهم كمين وتم اعتقالهم وتصفيتهم ميدانياً بدم بارد.
مخيم اليرموك
رغم عدم الاعتراف به رسمياً من قبل وكالة الأونروا إلا أن مخيم اليرموك يُعتبر من أكبر المخيمات الفلسطينية على الإطلاق. يبلغ عدد سكانه حوالى مليون نسمة، 200 ألف لاجئ فلسطيني أما الباقي فهم سوريون قطنوا المخيم لأسباب عديدة لعل أهمها ظروفهم المعيشية الصعبة. وهو يقع داخل حدود مدينة دمشق ويبعد 8 كيلومترات عن وسط العاصمة الى الجنوب.
ما يميز المخيم هو موقعه الجغرافي في جنوب دمشق والذي يكاد يفصل ما بين دمشق المدينة وريفها (الغوطة)، ويلاصق المخيم عدة أحياء شعبية سورية، فمن الشرق حي التضامن ومن الجنوب الحجر الأسود ويلدا وهي أحياء شعبية بعدها يبدأ ريف دمشق، وغرباً بساتين منطقة القدم، ومدخله الشمالي هو منفذ أغلب ضواحي جنوب دمشق إلى دمشق المدينة. ومن ناحية أخرى يعتبر المخيم مركزاً اقتصادياً مهماً في دمشق حيث يعتبر شارع لوبيا وشارع صفد من أكثر الشوارع ذات النشاط التجاري في دمشق وليس في المخيم فقط، حتى أن سعر المحل فيهما قد يصل إلى مليون دولار.
ما قبل الحصار
في بداية الثورة السورية أو الأحداث السورية، سمِّها ما شئت، لأن كل هذه التسميات لن تعيد شهداء الجوع إلى الحياة، حاول لاجئو المخيم تجنيب أنفسهم ويلات الدخول في القتال الدائر في دمشق بين قوات النظام والجيش الحر، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل لأن الأحداث قد فرضت نفسها على واقع المخيم.
هذا المخيم كان ملجأ لكثير من أهالي ريف دمشق وأهالي أحياء العاصمة دمشق التي تعرّضت للقصف، كمدن ببّيلا ويلدا في الريف وكأحياء التضامن والحجر الأسود والقدم والعسالي وغيرها. الجيش الحرّ وجماعات مسلحة أخرى كانت قد سيطرت على ريف دمشق (الغوطة) ففرض النظام حصاره عليها وقام بقصفها بشكل يوميّ ومنع الدخول والخروج إليها، بدأ جيش الحر والجماعات المسلحة بالزحف من الجنوب إلى مخيم اليرموك في منتصف شهر كانون الأول عام 2012 ليدخل المخيم دائرة الصراع. بدأت الصراع باشتباكات مسلحة بين الجيش السوريّ الحرّ وجماعات إسلامية سورية وحتى فلسطينية كجماعة أكناف بيت المقدس وزهرة المدائن (والتي كما يقول أهل المخيم إنها محسوبة على حركة حماس) من جهة وبين قوات النظام السوري والجبهة الشعبية – القيادة العامة من جهة أخرى.
بعد ذلك بيوم بتاريخ 16/12/2012 م قام سلاح الجو السوريّ بقصف مخيم اليرموك بطائرات الميغ الروسية، استهدف القصف ثلاثة مراكز للنازحين السوريين منها مسجد عبد القادر الحسيني حيث سقط 25 شهيدا وعشرات الجرحى. استمرت الاشتباكات بين الطرفين وتركّزت في بداية المخيم عند ساحة البطيخة وحي الناصرة (شارع راما)، وساحة الريجة وبلديّة المخيم في شارع فلسطين. أجبرت هذه الاشتباكات مئات الآلاف من أهالي المخيم الفلسطينيين والسوريين على مغادرة المخيم إلى المناطق المجاورة أو إلى الدول المجاورة: لبنان (100 ألف لاجئ) والأردن وتركيا وأوربا (170 ألف) ومنهم من قتل بالاشتباكات ومنهم من غرق أثناء هروبهم عبر البحر الأبيض المتوسط.
بعد فترة أعلنت قوات المعارضة سيطرتها على شارع الثلاثين، الشارع الواصل بين المخيم وحي الحجر الأسود، ثمّ تعرّضت الأبنية المطلة على هذا الشارع إلى قصف عنيف من قبل الدبابات دمّر أجزاء منها، ثم سيطروا على المخيم بشكل كامل. وبحسب التقديرات، بقي في المخيم 30 ألف غالبيتهم الساحقة من الفلسطينيين حيث واجهوا صعوبة بالغة بتموين أنفسهم بالغذاء والدواء، وبدأ الحصار الكامل بتاريخ 18/07/ 2013 م.
بدء الحصار
أصبح المخيم محاصراً من مداخله الشّمالية الرئيسية من قبل النظام السّوريّ وفرع المخابرات الجوية والموالين: حيث تمركز ماهر المؤذن (كتيبة مسلحة بالصواريخ) بمنطقة القاعة شمال مخيم اليرموك، وتمركز مسلحو الجبهة الشعبية – القيادة العامة وفتح الانتفاضة بساحة البطيخة – منطقة الجسر شمال المخيم، وتمركز مسلحو شارع نسرين في منطقة الزاهرة الجديدة شمال المخيم.
في داخل المخيم تمركز مسلحو جبهة النصرة وكتائب مسلحة أخرى سورية وفلسطينية على شبابيك بيوت المخيم المهجورة وانتشروا في أزقته. أما باقي الفصائل الفلسطينية فلاذت بالصمت ولم تحرك ساكناً أمام هذه المأساة، فالقوتان الفلسطينيتان الكبيرتان كانت إحداها مع النظام والأخرى مع الجيش الحر.
ومن المنطقة الجنوبية هناك حصار آخر من النظام على الريف (الغوطة) لكن يوجد على الأقل في الريف مزروعات وأشجار ساعدت أهله على تحمل الحصار عكس ما يحصل في مخيم اليرموك إذ لا وجود إلا للمباني السكنية. وتتمثل خطة النظام السوري بتشديد الحصار على الجميع حتى يكسر شوكة مسلحي المعارضة، حتى لو كان ذلك على حساب المدنيين، والمسلحون يرفضون الخروج من المخيم حتى لو كان أيضاً على حساب المدنيين من أهالي المخيم.
بدأ تأثير الحصار على المخيم يظهر إذ شهدت الأسعار ارتفاعاً كبيراً، وبدأت تنفد مخزونات القمح والشعير والعدس، ونفد الدواء من أهالي المخيم وهناك حالات مرضية بحاجة دائمة لدواء كأمراض الضغط والكوليسترول وغيرها، نفدت المحروقات أيضاً، حتى كاد ينفد الهواء من الجو!
بدأت حالات مرضية تنتشر بين الأطفال منها: الجرب، التهاب الكبد الإنتاني والقمل، ومشفى فلسطين أصبح خالياً من أي مواد طبية بل أصبح خالياً حتى من الأطباء، واقتصر أغلب المتواجدين فيه على متطوعي الهيئات الإغاثية التي نفد أيضا مخزونها بعد استيلاء بعض مسلحي المعارضة عليه ومصادرة مخزوناته. وجه أهالي المخيم نداءات استغاثة للجميع وحملوا الجميع المسئولية عن هذه الكارثة الإنسانية خاصة الجبهة الشعبية – القيادة العامة وحماس، وانتقدوا صمت الفصائل ومنظمة التحرير.
أحد أهالي المخيم يقول: "احنا عايشين عالمي والملح وشوربة ماجي من غير شعيرية .. ولادي ما بطلعوا براز ومرتي فقدت وعيها أكتر من مرة .. عم بنموت وما حدا سائل فينا".
أرسلت منظمة التحرير الفلسطينية وفداً إلى دمشق لمحاولة حل الأزمة، انتقد الوفد وجود المسلحين داخل المخيم وباءت محاولتهم بالفشل، وتشكلت لجنة لحل الأزمة قادها أبو عمر العمري وهو من مخيم اليرموك ومحسوب على النظام حسب أهالي المخيم وباءت محاولته بالفشل أيضاً، فخرج أهالي المخيم بمظاهرات انتقدوا فيها منظمة التحرير لتسجيلها موقف سياسي على حساب حياتهم.
انطلقت حملة للإغاثة سميت بحملة الوفاء الأوربية ووصلت المعونات والأدوية إلا أن المعونات لم تدخل بسبب إطلاق النار عليها من قبل مسلحي شارع نسرين الموالين للنظام. خرج أهالي اليرموك مرة أخرى في مظاهرة أمام مكتب جبهة النصرة في المخيم تطالبهم بإيجاد حل لمعاناتهم وقوبل طلبهم بالرفض. يتساءل أهالي المخيم لماذا آثار الحصار فقط تظهر علينا ولا تظهر على المسلحين؟ بعد مرور 165 يوماً على الحصار بدأ شهداء الجوع بالسقوط فسقط 5 شهداء في أول يوم حتى وصل العدد اليوم إلى 30 شهيداً في اليوم 171 للحصار.
حتى القمامة التي كان يبحث فيها بعض من أهالي مخيم اليرموك لم تعد متوفرة.
مخيم اليرموك على شفا حفرة من مجاعة تودي بحياة الآلاف من أبناء المخيم، أعداد شهداء الجوع كل يوم في ازدياد ولا حل للأزمة إلا بتدخل سياسي تقوده منظمة التحرير من أجل رفع الحصار عن المخيم، وعلى منظمة التحرير أن تتحمل مسئولياتها اتجاه لاجئي المخيم وأن تقوم بتحييد المخيم عن الصراع خاصة بين الفصائل الفلسطينية الموالية أو المعارضة للنظام، وعلينا أن نضغط على هذه المنظمة المهترئة لتتحرك.
تحركوا أو انصرفوا!
[ عن " شبكة قدس الإخبارية"]